كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وإن ربك} أي: المحسن إليك بإعلاء أمرك واستنقاذ الناس من ظلام الجهل على يدك {لهو العزيز} أي: القادر على الانتقام من كل فاجر {الرحيم} بعباده لأنه تعالى أفاض عليهم نعمه وكان قادرًا على أن يهلكهم، فدل ذلك على كمال رحمته وسعة جوده وفضله. ولما أتم سبحانه وتعالى ما أراد من قصة موسى عليه السلام ليعرف محمدًا صلى الله عليه وسلم أن تلك المحن التي أصابته كانت حاصلة لموسى، أتبعه دلالة على رحمته وزيادة في تسلية نبيه قصة إبراهيم عليه السلام وهي القصة الثانية بقوله تعالى: {واتل} أي: اقرأ قراءة متتابعة يا أشرف الخلق {عليهم} أي: كفار مكة وقوله تعالى: {نبأ} أي: خبر {إبراهيم} قراءة نافع وابن كثر وأبو عمرو في الوصل بتسهيل الهمزة الثانية، وحققها الباقون، وفي الابتداء بالثانية الجميع يحققون ويبدل منه.
{إذ} أي: حين {قال لأبيه وقومه} منبهًا لهم على ضلالهم لا مستعلمًا لأنه كان عالمًا بحقيقة حالهم ولكنه سألهم بقوله: {ما} أي: أي شيء {تعبدون} أي: تواطئون على عبادته ليريهم أن ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء كما تقول للتاجر ما مالك وأنت تعلم أن ماله الرقيق، ثم تقول الرقيق جمال وليس بمال.
{قالوا} في جوابه {نعبد أصنامًا}، فإن قيل: قوله عليه السلام ما تبعدون سؤال عن المعبود فحسب، فكان القياس أن يقولوا أصنامًا كقوله تعالى: {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو}.
وكذا قوله تعالى: {ماذا قال ربكم قالوا الحق}.
وكقوله تعالى: {ماذا أنزل ربكم قالوا خيرًا}؟
أجيب: بأنّ هؤلاء قد أجابوا بقصة أمرهم كاملة كالمبتهجين بها والمفتخرين فاشتملت على جواب إبراهيم عليه السلام وعلى ما قصدوه من إظهار ما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار، ألا تراهم كيف عطفوا على قولهم: نعبد {فنظل لها عاكفين} ولم يقتصروا على زيادة نعبد وحده، ومثاله أن تقول لبعض الشطار ما تلبس في بلادك فيقول: ألبس البرد إلا تحمى فأجر ذيله بين جواري الحيّ، وإنما قالوا نظل لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل، يقال ظلّ يفعل كذا إذا فعل بالنهار، والعكوف: الإقامة على الشيء، ثم إن إبراهيم عليه السلام.
{قال} منبهًا على فساد مذهبهم {هل يسمعونكم} أي: يسمعون دعاءكم أو يسمعونكم تدعون فحذف ذلك لدلالة {إذ} أي: حين {تدعون} عليه، فعلى الأول: هي متعدّية لواحد اتفاقًا، وعلى الثاني: هي متعدية لاثنين قامت الجملة المقدرة مقام الثاني وهو قول الفارسيّ، وعند غيره الجملة المقدرة حال، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الذال عند التاء، والباقون بالإدغام.
{أو ينفعونكم} إن عبدتموهم {أو يضرّون} أي: يضرونكم إن لم تعبدوهم، ولما أقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام عليهم هذه الحجة الباهرة وهو أنّ الذي يعبدونه لا يسمع دعاءهم حتى يعرف مقصودهم ولو عرف ذلك لما صح أن يبذل النفع أو يدفع الضرّ فكيف يعبد ما هذه صفته ولم يجدوا ما يدفعون به حجته إلا التقليد.
{قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك} أي: مثل فعلنا هذا الفعل العالي الشأن ولو لم يكن عند من نعبدهم شيء من ذلك، ثم صوّر إحالة آبائهم في نفوسهم تعظيمًا لأمرهم بقولهم: {يفعلون} أي: فنحن نفعل كما فعلوا فإنهم حقيقيون منا بأن لا نخالفهم مع سبقهم لنا إلى الوجود فهم أرصن منا عقولًا وأعظم تجربة فلولا أنهم رأوا ذلك حسنًا ما واظبوا عليه، وهذا تقليد محض خال عن أدنى نظر كما تفعل البهائم والطير في تبعها لأولها، ثم إنّ إبراهيم عليه السلام.
{قال} معرضًا عن جواب كلامهم لما رآه ساقطًا لا يرتضيه عاقل {أفرأيتم} أي: تسبب عن قولكم هذا أني أقول لكم أرأيتم، أي: إن لم تكونوا رأيتموهم رؤية موجبة لتحقق أمرهم فانظروهم نظرًا شافيًا {ما كنتم تعبدون} أي: مواظبين على عبادتهم.
{أنتم وآباؤكم الأقدمون} أي: الذين هم أقدم ما يكون فإنّ التقدم والأولية لا يكون برهانًا على الصحة، والباطل لا ينقلب حقًا بالقدم.
{فإنهم عدوّ لي} أي: أعداء لي، وإنما وحده على إرادة الجنس ويجيء العدوّ والصديق في معنى الواحد والجماعة، قال القائل:
وقوم على ذوي مثرة ** أراهم عدوًّا وكانوا صديقًا

ومنه قوله تعالى: {وهم لكم عدوّ}.
تشبهًا بالمصادر كالحنين والصهيل، وقيل: هو من المقلوب أراد أني عدوّ لهم فإنّ من عاديته فقد عاداك، وقرأ نافع أفرايتم بتسهيل الهمزة التي هي عين الكلمة، ولورش أيضًا إبدالها ألفًا، وأسقطها الكسائي، وحققها الباقون.
فإن قيل: لم قال فإنهم عدوّ لي ولم يقل فإنها عدوّ لكم؟
أجيب: بأنه عليه السلام صور المسألة في نفسه بمعنى أني فكرت في أمري فرأيت عبادتي ولها عبادة للعدوّة فاجتنبتها وأراهم أنها نصيحة نصح بها نفسه فإذا تفكروا قالوا ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون ذلك أدعى إلى القبول وأبعث إلى الاستماع منه، ولو قال فإنهم عدوّ لكم لم يكن بتلك المثابة ولأنه دخل في باب من التعريض وقد يبلغ التعريض للمنصوح ما لا يبلغه التصريح لأنه يتأمل فيه فربما قاده التأمّل إلى التقبل، ومنه ما يحكى عن الشافعيّ رضي الله عنه أن رجلًا واجهه بشيء فقال: لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب، وسمع رجل ناسًا يتحدثون في الحجر فقال: ما هو ببيتي ولا ببيتكم، وقوله: {إلا رب العالمين} أي: مدبر هذه الأكوان كلها يصح أن يكون استثناء منقطعًا بمعنى أنهم عدوّ لي لا أعبدهم لكن رب العالمين فإني أعبده، وأن يكون متصلًا على أن الضمير لكل معبود عبدوه وكان من آبائهم من عبد الله تعالى فكأنه قال إلا رب العالمين فإنه ليس بعدوّي بل هو ولي ومعبودي، ثم شرع يصفه بما هم به عالمون من أنه على الضدّ الأقصى من كل ما عليه أصنامهم بقوله: {الذي خلقني} أي: أوجدني على هيئة التقدير والتصوير {فهو} أي: فتسبب عن تفرده بخلقي أنه هو لا غيره {يهدين} أي: إلى الرشاد ولا يعلم باطن المخلوق ويقدر على التصرف فيه غير خالقه ولا يكون خالقه إلا سميعًا بصيرًا ضارًا نافعًا له الكمال كله وذكر الخلق بالماضي لأنه لا يتجدد في الدنيا، والهداية بالمضارعة لتجددها وتكرّرها، لأنه تعالى لما أتم خلقه ونفخ فيه الروح عقب ذلك هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى كل ما يصلحه ويعينه وإلا فمن هداه إلى أن يتغذى بالدم في البطن امتصاصًا؟ ومن هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة وإلى معرفة مكانه؟ ومن هداه لكيفية الارتضاع إلى غير ذلك دينًا ودنيًا.
{والذي} أي: {هو} لا غيره {يطعمني ويسقين} أي: يرزقني ويغذيني بالطعام والشراب ولو أراد أعدم ما آكل وما أشرب أو أصابني بآفة لا أستطيع معها أكلًا ولا شربًا، ونبه بذكر الطعام والشراب على ما عداهما.
تنبيه:
يجوز في والذي يطعمني ويسقين أن يكون مبتدأ وخبره محذوف لدلالة ما قبله عليه وكذا الذي بعده، ويجوز أن تكون أوصافًا للذي خلقني ودخول الواو جائز كقوله:
إلى الملك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة في المزدحم

وتكرير الموصول على الوجهين للدلالة على أن كل واحدة من الصلات مستقلة باقتضاء الحكم.
{وإذا مرضت} أي: باستيلاء بعض الأخلاط على بعض لما بينهما من التنافر الطبيعي {فهو} أي: وحده {يشفين} أي: بسبب تعديل المزاج بتعديل الأخلاط وقسرها عن الاجتماع لا بطبيب ولا غيره.
فإن قيل: لم أضاف المرض إلى نفسه مع أنّ المرض والشفاء من الله تعالى؟
أجيب: بأنه قال ذلك استعمالًا لحسن الأدب كما قال الخضر عليه السلام {فأردت أن أعيبها}.
وقال: {فأراد ربك أن يبلغا أشدهما} (الكهف)، وأجاب الرازي بأنّ أكثر أسباب المرض محدث بتفريط الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك، ومن ثم قال الحكماء لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم لقالوا التخم، وبأنّ الشفاء محبوب وهو من أصول النعم والمرض مكروه وليس من النعم، وكان مقصود إبراهيم عليه السلام تعديد النعم ولما لم يكن المرض من النعم لا جرم لم يضفه إلى الله تعالى ولا ينتقض ذلك بإسناد الإماتة إليه كما سيأتي، فإنّ الموت ليس بضرّ لأنّ شرط كونه ضرًّا وقوع الإحساس به وحال الموت لا يحصل الإحساس به إنما الضرر في مقدماته وذلك هو عين المرض، ولأنّ الأرواح إذا كملت في العلوم والأخلاق كان بقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر وخلاصها عنها عين السعادة بخلاف المرض.
{والذي يميتني} يقبض روحي في الدنيا ليخلصني من آفاتها {ثم يحيين} للمجازاة في الآخرة كما شفاني من المرض، ولهذا التراخي بين الموت والإحياء أتى بثم هنا لأنّ الإماتة في الدنيا والإحياء في الآخرة، ولما ذكر البعث ذكر ما يترتب عليه بقوله: {والذي أطمع} هضمًا لنفسه وإطراحًا لأعماله {أن يغفر} أي: يمحو أو يستر {لي خطيئتي} أي: تقصيري عن أن أقدره حق قدره {يوم الدين} أي: الجزاء.
روي أنّ عائشة قالت قلت يا رسول الله: إنّ ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال: «لا ينفعه، إنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» وهذا كله احتجاج من إبراهيم على قومه أنه لا يصلح للإلهية إلا من يفعل هذه الأفعال.
فإن قيل: لم قال والذي أطمع والطمع عبارة عن الظنّ والرجاء وهو عليه السلام كان قاطعًا بذلك؟.
أجيب: بأنّ في ذلك إشارة إلى أن الله تعالى لا يجب عليه لأحد شيء، فإنه يحسن منه تعالى كل شيء ولا اعتراض لأحد عليه في فعله.
فإن قيل: لم أسند لنفسه الخطيئة مع أنّ الأنبياء معصومون؟
أجيب: بأنّ مجاهدًا قال هي قوله: {إني سقيم} وقوله: {بل فعله كبيرهم} هذا وقوله: لسارة هي أختي، ورد بأن هذه معاريض كلام وتخيلات للكفرة وليست بخطايا يطلب لها الاستغفار، والأولى في الجواب أن استغفار الأنبياء تواضع منهم لربهم وهضم لأنفسهم، ويدل عليه قوله: أطمع ولم يجزم القول بالمغفرة، وفيه تعليم لأممهم وليكون لطفًا لهم باجتنابهم المعاصي والحذر منها وطلب المغفرة مما يفرط منهم، فإن قيل: لم علق مغفرة الخطيئة بيوم الدين وإنما المغفرة في الدنيا؟
أجيب: بأنّ أثرها يتبين يومئذ وهو الآن خفي لا يعلم، ولما حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام ثناء عليه ذكر بعد ذلك دعاءه ومسألته بقوله.
{رب} أي: أيها المحسن إليّ {هب لي حكمًا} أي: عملًا متقنًا بالعلم، وقال ابن عباس: معرفة حدود الله وأحكامه، وقال الكلبيّ: النبوّة لأنّ النبيّ ذو حكمة وذو حكم بين عباد الله، ثم بين أنّ الاعتماد إنما هو على محض الكرم فإن من نوقش الحساب عذب بقوله: {وألحقني بالصالحين} أي: الذين جعلتهم أئمة للمتقين في الدنيا والآخرة وهم الأنبياء والمرسلون، وقد أجابه الله تعالى حيث قال: {وإنه في الآخرة لمن الصالحين}.
وفي ذلك تنبيه على أن تقديم الثناء على الدعاء من المهمات، فإن قيل: لم لم يقتصر إبراهيم عليه السلام على الثناء ولاسيما يروى عنه أنه قال حسبي من سؤالي علمه بحالي؟
أجيب: بأنه عليه السلام إنما ذكر ذلك حين اشتغاله بدعوة الخلق إلى الحق لأنه قال فإنهم عدوّ لي إلا رب العالمين ثم ذكر الثناء ثم ذكر الدعاء لما أنّ الشارع لابد له من تعليم الشرع فأمّا حين خلا بنفسه ولم يكن غرضه تعليم الشرع اقتصر على قوله حسبي من سؤالي علمه بحالي.
تنبيه:
الإلحاق بالصالحين أن يوفقه لعمل ينتظم به في جملتهم أو يجمع بينه وبينهم في المنزلة والدرجة في الجنة، ثم إنه عليه السلام طلب زيادة في الآخرة بقوله: {واجعل لي لسان صدق} أي: ذكرًا جميلًا وقبولًا عامًا وثناءً حسنًا بما أظهرت من خصال الخير {في الآخرين} أي: من الناس الذين يوجدون بعدي إلى يوم الدين لأكون للمتقين إمامًا، فيكون لي مثل أجورهم، فإنّ من سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، قال ابن عباس: أعطاه الله تعالى بقوله: {وتركنا عليه في الآخرين}.
أنّ أهل الإيمان يتولونه ويثنون عليه وقد جعله الله شجرة مباركة فرع منها الأنبياء الذين أحيا الله تعالى بهم ذكره الذي من أعظمه ما كان على لسان أعظمهم النبيّ الأميّ صلى الله عليه وسلم من قوله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم. إلى آخره، ولما طلب عليه السلام سعادة الدنيا وكان لا نفع لها إلا باتصالها بسعادة الآخرة التي هي الجنة طلبها بقوله: {واجعلني} أي: مع ذلك كله بفضلك ورحمتك {من ورثة جنة النعيم} لأنّ فيها النظر إلى وجه الله الكريم وهو السعادة الكبرى، شبهها بالأرض الذي يحصل بغير اكتساب إشارة إلى أنها لا تنال إلا بمنه وكرمه لا بشيء من ذلك، ولما دعا لنفسه ثنى بأحق الخلق ببره بقوله: {واغفر لأبي} بالهداية والتوفيق إلى الإيمان لأنّ المغفرة مشروطة بالإيمان وطلب المشروط متضمن لطلب الشرط، فقوله: {واغفر لأبي} كأنه دعاء له بالإيمان، وقيل: إنّ أباه وعده بالإسلام لقوله تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه}.
فدعا له قيل: أن يتبين له أنه عدوّ لله كما سبق في سورة التوبة، وقيل: إنّ أباه قال له أنه على دينه باطنًا وعلى دين نمروذ ظاهرًا وتقيةً وخوفًا فدعا له لاعتقاده أنّ الأمر كذلك فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه، ولذلك قال في دعائه {إنه كان من الضالين} فلولا اعتقاده فيه أنه في الحال ليس بضالّ لما قال ذلك، وقيل: إن الاستغفار للكفار لم يكن ممنوعًا إذ ذاك.